27 - 06 - 2024

إبداعات | "من ذاكرة طفولة تبتسم" .. 3 قصص قصيرة بقلم: خالد العرفي

إبداعات |

** ولد صغير وطريق لا ينساه..**

شارع "عزبة السيوف".. اسمه هكذا.. ليس عزبة بمعنى مكان ريفى،. طريق بينه وبين شاطئ البحر الشهير بالثغر / الإسكندرية" أبى هيف- سيدي بشر" دقيقة واحدة. أطلقوا عليه هذا الاسم لكثرة فيلات اليونان والأرمن وغيرهم،.. ربما منهم الخواجة "تشاكوس".. والخواجة " سباهى" والخواجة " ينى" .. والخواجة "سيوف" نفسه صاحب الشارع..

يمشى الصبى متلكئا.. من "فيكتوريا" بجوار كلية فيكتوريا (فيكتوريا كوليج) لعزبة السيوف.. ينظر فيما خلف أسوار الفيلات العتيقة يخال أشجارها تحدثه وتسامره. تلفت نظره الأبنية الحجرية المغطاة بالقرميد النبيتى أو الأحمر، ورائحة الورد البلدى وأريج الفل والياسمين، مما يعبق بالأريج الطريق، الذى تتخلله دروب ضيقة بين الفيلات، أشبه بجيوب سحرية..

يدلف من درب إلى آخر، حتى يصل إلى بائع الكتب والمجلات القديمة. يدسّ فى يده مصروفا وفّره طوال الأسبوع لشراء بضعة مجلات قديمة لـ ( تان تان وميكى وسوبرمان..) أو كتاب قديم من سلسلة الكتاب الذهبى. 

كم أحبّ أن يغوص بنفسه بين أكوام الكتب. يشم رائحتها ويقلب فيها. يقع فى يديه أحد الكتب الأجنبية، لا يعرف لغة لها. لم يكن يعرف بعد حروف الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها.

يلفت نظره شكل الكتاب من الداخل، بصفحاته المقسومة رأسيا، وشكل الورق مع الرسوم اليدوية القديمة. استطاع أن يرى أرقام سنة الطباعة القديمة.

أخذ الكتاب ليضعه فى حقيبته ذات الجلد السميك. وعد الرجل العجوز باعادة الكتاب الأسبوع التالي، مقابل قرش صاغ كامل، مع مجلات سوف يستبدلها ليستزيد قراءة. قلّد الحروف بقلمه الرصاص على ظهر ورقة خشنة من أوراقه.. لم يكن يستطيع شراء الورق الأبيض.

كتب الحروف الغريبة. عرف فيما بعد أنها حروف الإنجليزية ولم يعرف الكلمات. تأمل الصور، لعلها تعطيه شكل الكلمات. هذه مبان قديمة. وهذا جبل وراءه غابة. لوحة يدوية، وليست صورة فوتغرافية. أخذ الكتاب فى حقيبته اليوم التالى. لمدرسته  التى تجاور طريق ممشاه.

"  أبلة " أمينة " لا أعرف كيف أقرأ هذه الحروف. ايه هى يا أبلة أمينة"

- "اسمع يا حبيبى بكرة تكبر وتعرف إنجليزى. ده حروف إنجليزية والكتاب ده قصة لكاتب إنجليزى شهير اسمه "تشارلز ديكنز "..

- " ممكن تعلمينى يا  "ابلة "؟ "

احتفظ الولد بالكتاب. يحب رائحته يشمها. تسكره.. يأخذه معه إلى فراشه.. يحب تصفحه وهو مستدفء.. قبل أن ينتهى الأسبوع، تعلم الحروف الغريبة. حفظها دون أن يعرف نطقها ولا معناها.. يرسمها رسما بأنامله الصغيرة على الورقة الكرتون السميكة. على كفّه الصغير. يعود ليقلب صفحات الكتاب، ويقف عند الرسوم. يود أن يستنطقها لتروى له القصة المكتوبة، ويعود لشارع عزبة السيوف مرة ثانية.  يستبدل المجلات بأخرى. وعد البائع العجوز بقرش زيادة الأسبوع المقبل. مقابل أن يدع الكتاب له .

وتمرّ السنون تحمل أحلام الطفل الصغير. وتختفى الفيلات. ويختفى حانوت الكتب القديمة. وتختفى المدرسة. ويكبر الولد الصغير. ويتذكر حروفا تعلمها، قبل أن يعرف نطقها، ولا ينسى " أبلة أمينة ".. ولا ينسى الرسوم.

فى ذاكرته ، يعاوده الحنين فيحب أن يمر بنفس الطريق العريق القديم. يتذكر أريج حدائق الغرباء ويتذكر المحل القديم والبائع العجوز. ولا ينسى رائحة قدم الكتب، بورقها الأصفر.. ولا لمسة معلمته "أبلة أمينة " على كتفيه حانية تشق له طريق القراءة..

لم يعد الطفل يمر بالطريق،  إلا فى ذاكرته، حنينا لطفولة قراءته.. وطيفها في ذاكرته...

........

 ** الأخطبوط **

أحيانا كانت تهدى منها الجيران، الذين باتوا ينتظرونى، بعد كل رحلة صيد، على بُعد ثلاث دقائق، من بيتنا بقرب الشاطئ. كم أنضجت أمى، طواجن من صيدى، وصيد أبى .. وكم من تلك العقود الصدفية، التى جمعت أصدافها.. يذكرنى بها، ما هو معلق،.. وأمى دائما تذكرنى، بذلك اليوم، الذى لا أنساه، في طفولتي،.. دعانى أبى، ليعلمنى السباحة، والغوص. لم يبعد الشاطئ عن بيتنا، إلا مسيرة قصيرة. ونحن نهم بالسير، عبر دربنا، المؤدي إلى الشاطئ، فاجأنى، وأخذنى لأبعد نقطة، عن الساحل، بعد أن نأينا:

-" هنا ستتعلم السباحة يا يوسف"

-" لكن هنا صخور صلبة، والعمق كبير"

-" لذلك ستتعلم، ما لا يتعلمه غيرك. أليس ذلك أفضل. هنا ستتعلم الخطر. سأعلمك كل شئ. لن أبخل عليك.. لن أضن بما علمنى، جدّك رحمه الله"

رأيت الأمواج تتهادى مرة، وتسرع مرة، باتجاهنا. لم يكن غريبا، أن تتخطى الحاجز الصخرى، فى الشتاء. كانسة معها ماضى الصيف، والمصطافين. كانت تجرف معها، حتى الرمال. تُعمل بقوتها، فى تعرية حواف الشاطئ، فتتآكل مع الزمن، من عام إلى آخر.. كنت أرى الأمواج تروسا جبارة، لا تتوقف أبدا.. تأخذ كل شئ معها. لكننى عشقت الأمواج، وصادقتها، وباتت تعرفنى،.. علمنى أبى كيف أتعامل معها، كما علمه جدّى.. أكسرها وأتخطاها. مع الوقت صرت صخرة حية.. تعرفنى الأمواج.. ويعرفنى البحر. حتى الأصداف التى كنت أجمعها.. عرفت أنواعها.. 

أحيانا، كنا نصطاد، وسرعان ماعلمنى أبى، كيف أُحكم الشصّ. مرارا أمسكنا معا، بالأخطبوط. أحتفظ إلى الآن، بالذراع الحديدى ذى النصل الحاد، الذى أهدانى إياه أبى. تركه لى، فقد صنع لنفسه آخر.. كنا نتبادل صيد الأخطبوط، بالنصلين، بين الصخور، بعد أن نغوص معا. مع الوقت، صرت أكثر حنكة.. يفرح كثيرا حينما كنت أسبقه، غوصا، ولا يدرى بى، إلا ونصل رمحى الطويل الحاد، مغروس فى قلب أخطبوط، وقد إهترأت أذرعه،.. أقوم بتقطيع الباقى منها، على الشاطئ، بسكين حاد..

يضحك أبى وأضحك، مختلطة أصوات ضحكاتنا، برائحة اليود النقى يملأ صدرينا. وتمتزج، كلماتنا بأصوات الأمواج، على بُعد ثلاث دقائق..

.......

** الكبش **

وسطّه جرن المزرعة، آخر قطعة أرض، اشتراها من صديق له، بالساحل الشمالى. روي لي: حرصت على ألا تكون جوانبه ليست مرتفعة، بعيدا عن حظيرة الماشية. بدا مسطحا ليس عميقاً، لكل دجاجة تود أن تشرب. إلا أن الدجاج عانى، من حظيرة الأغنام المجاورة، لحوضها.. ظانا أنه دجاحة مثلها، كان هناك كبش أسود، يختلف عن بقية القطيع. يتسلل للشرب مع الدجاج.. يخيفها بقرنين مكسورين. ويزعجها بثغائه... بصوت متقطع مرة، وأخرى يفزعها، بثغاء مستمر، كأن به مسّ شيطان.. حتى ظننت أنه سوف (ينقنق ويقوقق) بدلا من أن يثغو.. إستدعيت بيطرى، لعلاجه ولم يفلح. قال لى ضاحكا (أتخشى أن ينزو، على إحداهن، ف"تفطس"..) قلت له : لا، فأنا أرى الدجاجات الماكرات، تحتال عليه، لتنقذ نفسها.. تقسّم نفسها قسمين، لتنجو بريشها. يراوده القسم الأول، فيذهب وراءه. فيشرب القسم الثانى. وهكذا يتبادل القسمان، شرب الماء من الحوض البعيد، والضحك على الكبش، ساخرة منه.. وهو ينطح جدار الحوض. مسكين الكبش، لم يعرف أن هناك حوض آخر كبير، وراء المزرعة. تعرفه الدجاجات فقط..يسهل لها، الشرب والحياة، مصطحبة أفراخها وصيصاناتها، بمنأى عن إزعاج ثغاء الكبش، ورفسات أظلافه، حينما يندس وسطها. كنت أستمتع برؤية هذه الحرب المضحكة، بين الكبش والدجاج. إلا أن أعرابى من المجاورين أشار علىّ، ليضحكنى أكثر :

- "إخصيه" يابك.. أو أبيعك نعجة، تؤنس وحشته، المسكين.. اخلص ياباشا من مشكلة هوس الكبش بالدجاج.. حتما، ستلهيه النعجة حتى الأضحى..."

رددت عليه باسما :

- "لا لا.. أنا أحب أن أرى هذا الكبش، دائما بين الدجاج.. يُسلينى،.. لعلى يوما أصبح، وأجد له (عُرف ديك) بدلا من قرنيه، اللذيْن فقدهما، نطحا فى الجدار.. أو نحصل منه، على ريش ملون، نضعه فى وسادة، لضيوف المزرعة.. بدلا من جزّ صوف ظهره، ورقبته.."

وتبادلنا الضحك مع عامل المزرعة، الذى كان يربط الكبش أمامنا فى حلقته أمام العليق.. وحبل طويل فى رقبته، يُعقل به، أينما ذهب، متوكلين على الله...
--------------------------
بقلم: خالد حامد العرفى






اعلان